
"لا" لإصلاح الائتلاف الوطني السوري، "نعم" لاستعادته.
قبل أن نتحدث عن "استعادة" أو "إصلاح" أو ربما "إهمال" مؤسسة الائتلاف والعمل على تشكيل "بديل" عنها، لا بد أن نسأل فيما لو كان واقع الائتلاف الوطني بعيد تأسيسه، أفضل من وضعه الراهن، من حيث استقلاليته، وتمثيله لقوى الثورة والمعارضة، وقدرته على الأداء الفعال في قيادة السوريين لتحقيق أهدافهم، ونهجه السياسي؟
للإجابة، نحن بحاجة لإطلالة سريعة على أبرز التحولات الميدانية والسياسية في سوريا، حيث كانت المعارضة تسيطر على القسم الأكبر من الجغرافيا السورية، ويقابل ذلك وضع سياسي وميداني حرج للنظام، ولم يكن التدخل الإقليمي والدولي المباشر في سوريا، اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، قد أخذ هذا الحجم الذي تحول فيه اللاعبين المحليين السوريين، إلى أدوات -بطريقة أو بأخرى- لإرادات أجنبية متصارعة امتلكت القرار السياسي السوري كاملاً.
أيضاً، فإن حجم الاستقطاب المتعاظم على أساس آيديولوجي، أو إثني، أو عرقي، لم يكن قد أصبح مع مرور سنوات الثورة في سوريا، بهذا العمق وبهذه الدموية.
نضيف لكل ذلك الدمار والخراب وتهجير ملايين السوريين -مايقارب نصف الشعب- والكارثة المعيشية التي يعانونها لم تكن بهذا الحجم أيضاً قبل سنوات، ما يشكل عبئاً ثقيلاً آخر، يدفع كل الأطراف المحلية لمزيد من الارتهان، ولمزيد من الصراع وعدم التوافق أيضاً.
و أخيراً، فالمناخ السياسي الدولي الذي كان لصالح قوى الثورة والمعارضة، والذي سمح لها باستلام مقعد سوريا في جامعة الدول العربية وفي الأمم المتحدة وفي منابر إقليمية ودولية أخرى، وافتتاح تمثيليات مختلفة للائتلاف في بعض بلدان العالم، والتي لم يستفد منها الائتلاف أيضاً، كونه وببساطة ونتيجة إشكالاته الداخلية، وارتهانه المزمن، لازال عاجزاً عن الاستفادة من أي فرصة.
كل ذلك يدفعنا للقول أن الائتلاف الوطني لا زال على ماهو عليه منذ اليوم الأول لتأسيسه وحتى يومنا هذا، ولكن التحولات السياسية المحلية والدولية، هي من كانت أفضل، وقد أصبحت أسوأ بشكل تدريجي خلال السنوات الماضية، مع ثبات في شلل هذه المؤسسة حتى الآن.
هنا يبرز لدينا تساؤل، هل يمكن إصلاح الائتلاف من داخله؟
برأيي الجواب هو "لا"، وأعتقد أن أي محاولة "إصلاح" للائتلاف الوطني من داخله لن ينجم عنها سوى المزيد من التغييرات الشكلية، الغير ذات قيمة.
حيث أن عوامل تعطيل أي محاولة "إصلاح" للائتلاف من داخله، تنبع من أربعة عناصر رئيسية:
العنصر الأول:
يكمن بالضبط وبكل بساطة في شخوص الأعضاء القياديين في الائتلاف، بالمكتب السياسي، الأمانة العامة، الهيئات القيادية التابعة للائتلاف، الحكومة المؤقتة، أعضاء هيئة التفاوض، أعضاء اللجنة الدستورية من الائتلاف الوطني، والكوادر الإدارية والتنظيمية في الصف الأول من الائتلاف، وكل الشخصيات النافذة في هذه المؤسسة.
ورأيي هذا ليس دعوة للتخوين أو الحط من قدر أحد على الإطلاق، وإنما هو رأي مبني على أساس أداء شخوص هذه المنظومة في مؤسسة الائتلاف الوطني، وتحويله لمساحة تقاسم نفوذات إقليمية مختلفة من خلال أعضائه النافذين والقياديين، في مختلف هيئاته والمؤسسات التابعة له، وأعتقد أن الدور الوطني الوحيد المنوط بهم القيام به فعلاً، لا بل إن الضرورة الموضوعية تفرض أن يقوموا به، هو فقط الابتعاد عن المشهد السياسي.
العنصر الثاني:
هو الوسط السياسي المحلي السوري الغير رسمي -إن صح التعبير-:
بمعنى الشخصيات السياسية التي لا تزال تتمتع بحضور -على الأقل على الصعيد الإعلامي-، وبعض النفوذ في أوساط سياسية واجتماعية مختلفة، والمجاميع السياسية المختلفة من تحالفات وقوى وأحزاب وتيارات وغيرها، والتي يقود الكثير منها أعضاء وقيادات سابقة بارزة بالائتلاف الوطني نفسه، حيث يمكن النظر لتلك القوى على أنها عبارة عن عينات مصغرة تماماً عن الائتلاف، إن كان من حيث انغلاقها، وهشاشة بنيتها، وعجزها الداخلي، غياب وحدة القرار السياسي فيها، وعدم وثوق بعضها ببعض وبالائتلاف والعكس.
العنصر الثالث:
هو المناخ السياسي الإقليمي والدولي:
وهو تحدٍ يفرض على قياديي مؤسسة الائتلاف، وعلى الشخصيات والتجمعات السياسية السورية الأخرى، ليس فقط قدراً عالياً من التجرّد والموضوعية، وتغليب المصلحة الوطنية على النوازع الشخصية، وإنما يتطلب شجاعة وجرأة، فيما يشكل تحدي للمشاريع الاقليمية والدولية في سوريا، تتجسد في محاولة لاستعادة شيء من الشخصية والقرار الوطني المستقل، بعد الهيمنة المطلقة لقوى إقليمية ودولية على القرار السياسي ليس فقط للائتلاف وإنما لكل الفاعلين المحليين السوريين سواء كانوا نظاماً أم معارضة.
العنصر الرابع:
وهو عدم تبلور مجموعات ضغط سورية، قادرة على فرض إرادتها ورؤيتها على الائتلاف، والضغط عليه لتتم إعادة هيكلته وبنائه على أسس عملية قادرة على لملمة شتات قوى المجتمع والمعارضة السورية على اختلافها.
هل يكمن الحل إذاً في تشكيل "بديل" عن مؤسسة الائتلاف؟
بالحقيقة لا يمكن على المدى المنظور على الأقل أن نتفاءل بمثل هكذا خطوة "ثورية" تتجسد في القدرة على تشكيل مظلة عمل وطني جامعة، تحظى بأوسع تمثيل ممكن على المستوى المحلي السوري، وتستحوذ على الشرعية الدولية سياسياً ودبلوماسياً والتي تحظى بها مؤسسة الائتلاف، وذلك لعوامل كثيرة لا يتاح الخوض فيها بهذا المقال، ولكن يمكن أن نذكر محاولة مماثلة لإعادة إنتاج بديل وطني، وهو التخلي عن المجلس الوطني السوري، وتشكيل الائتلاف الوطني السوري كبديل عنه، الأمر الذي أنتج نسخة أشد تشوهاً من سابقتها كونها تمت بذات الطريقة التي تشكل بناءً عليها المجلس الوطني، مع فارق وحيد، وهو إضافة المزيد من الإشكاليات والعوائق لجسد الائتلاف.
ولذلك أعتقد أن المسعى الوحيد المعقول على هذا الصعيد هو العمل على "استعادة" مؤسسة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وكل المؤسسات المنضوية تحت مظلته، والعمل على إعادة هيكلته بنيوياً وسياسياً بصورة جذرية، بما يشكله ذلك من ضرورة موضوعية، تتجسد في أن هذه المؤسسة لا تزال تصادر -على المستوى السياسي الرسمي-، قرار السوريين وإرادتهم، وتسيء تمثيلهم، وكون أن عملية إنتاج بديل هي مسألة غير ممكنة على المدى المنظور، وكون أن مسألة وجود بديل، كممثل ومؤطر للمعارضة السياسية يتمتع بقدر معقول من الاستقلال لا زال يجسد حاجة موضوعية قائمة ومستمرة.
على أن "استعادة" هذه المؤسسة الهامة، لا يمكن أن تتم إلا من خارجه، وذلك -برأيي- ربما يتم من خلال مسارين محتملين:
المسار الأول:
أن يحدث التوافق -بوسائل ضغط مختلفة-، بين قادة الائتلاف، وأوسع طيف ممكن من قادة القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني السورية، وشخصيات أكاديمية وثقافية سورية فاعلة ومؤثرة، على تسمية مجموعة من الشخصيات الموثوقة والمعروفة بحياديتها وموضوعيتها وسمعتها الطيبة، -من خارج جسد الائتلاف- والتي تمتلك الكفاءة والخبرة اللازمتين لإنجاز تصور يعيد لهذه المؤسسة شيء من قدرتها على التعاطي الفعال مع مجريات التحول السياسي السوري، وتحوله من إشكالية سورية معترف بها دولياً، إلى مؤسسة وطنية سورية ونافذة خلاص سورية معترف بها دولياً من جديد، ولا يكون ذلك التوافق، أمراً ذو قيمة أو أهمية، بين قيادة الائتلاف من جهة، وقادة المؤسسات السياسية والمدنية الاخرى من جهة أخرى، على تسمية وتشكيل مجموعة تقوم بإعادة الهيكلة بصورة جذرية للائتلاف برؤية ومقاربة سياسية مختلفة، فيما لو لم يكن ذلك الإتفاق ملزماً لكل تلك القوى والفعاليات المدنية والسياسية وعلى رأسها الائتلاف الوطني.
ولن يكون ذلك التوافق أيضاً ذو أي قيمة أو أهمية، -حتى لو كان ملزماً-، فيما لو تمت إعادة إنتاج ذات الشخصيات التي سبق لها وقد شغلت مواقع قيادية بالائتلاف.
هذا المسار على ضعف احتمالية وواقعية حدوثه، إلا أنه لا يزال قائماً، وممكناً بطريقة أو بأخرى، ولكنه بحاجة لجهود وتوافقات كبيرة، يبادر بها بالدرجة الأولى، قادة الإئتلاف ذاته، كون المشكلة تنطلق من الائتلاف نفسه وليس من أي مكان آخر.
المسار الثاني:
هو التبلور التدريجي لجماعات ضغط سورية، تتشارك في قيم مبدئية ورؤى عامة مشتركة للوضع في سوريا واحتياجاته، ومستقبل البلاد، بحيث يمكن لتلك الجماعات الضاغطة أن تسعى لفرض إراداتها بشكل متدرج وتراكمي على مؤسسة الائتلاف، وعلى غيره أيضاً، وتعمل على إحداث التغيير داخل القنوات الرسمية للمعارضة، وفي الوضع السياسي السوري عموماً بصورة تدريجية، ومن خارج كيانات المعارضة أيضاً.
هذا المسار أيضاً هو ما أراه يحصل بشكل تلقائي، من خلال استمرار الجماعات السورية في محاولاتها لمزيد من التنظيم والتأطير ورفع مستوى التعاون والتشبيك فيما بينها، وهو لا شك مسار طويل وغير مضمون النتائج لكنه يشكل نافذة أمل حقيقية للسوريين، ويمكن أن يلعب فيها المغتربون السوريون برأيي دوراً جوهرياً وأصيلاً، بما يمتلكونه من إمكانيات أولية -متنامية- يمكن التعويل عليها، في هذا السياق وفي سياقات العمل الوطني السوري بشكل عام.