
تفكيك الثنائيات والسلم الأهلي السوري
مراجعة المصطلحات
لا يمكن الذهاب إلى حلّ وطني للأزمة السورية، من دون إنجاز مهمة مقلقة ومعقدة، طالما تجنبنا تناولها، وأقصد فكّ الاشتباك بين ثنائيات “الداخل-الخارج”، “الموالاة-المعارضة”، “معارضي الداخل-معارضي الخارج”، على مستوى الجماهير السورية.
لا بدّ من وضع هذه المسألة الشائكة على طاولة التشريح، ومناقشتها بموضوعية، من دون أحكام مسبقة، ومن دون استحضار عواطف ملتهبة، يمكن أن تولّد استنتاجات وأحكامًا قطعية، سلبية كانت أم إيجابية
لا يمكن الذهاب إلى حلّ وطني للأزمة السورية، من دون إنجاز مهمة مقلقة ومعقدة، طالما تجنبنا تناولها، وأقصد فكّ الاشتباك بين ثنائيات “الداخل-الخارج”، “الموالاة-المعارضة”، “معارضي الداخل-معارضي الخارج”،على مستوى الجماهير السورية.
لا بدّ من وضع هذه المسألة الشائكة على طاولة التشريح، ومناقشتها بموضوعية، من دون أحكام مسبقة، ومن دون استحضار عواطف ملتهبة، يمكن أن تولّد استنتاجات وأحكامًا قطعية، سلبية كانت أم إيجابية.
ومن بين الأخطاء التي نرتكبها، عند استخدامنا لبعض المفاهيم والمصطلحات ذات الصلة بالمسألة السورية، نذكر:المبالغة في التعميم، وإطلاق الأحكام القطعية التقييمية على الأشخاص والأحداث الجارية من دون مراجعة أو إعادة تقييم، فضلًا عن الميل إلى التطرف في التفكير، فلا نرى الأمور إلّا باعتبارها ثنائية بقطبين لا تدرج بينهما. كذلك الميل إلى المبالغة في رؤية السواد أو البياض، وفق آلية التصفية، فضلًا عن سرعة القفز إلى الاستنتاجات من دون توفر المقدمات أو البيانات الضرورية.
لنأخذ، على سبيل المثال، مفهوم “معارض”: المعارض عمومًا هو السوريّ العربيّ السُنَّي! مع أن السُنّة الموالين للنظام ليسوا أقليّة، هذا من جهة، ومع أننا نجد بين المعارضين مسيحيين وعلويين ودروزًا وإسماعيليين… إلخ من جهة أخرى. إن تعميمًا من هذا القبيل يستخدمه كلٌّ من النظام، كي يُخيف غير السنّة من السوريين، والإسلام السياسي، بقصد المباهاة واحتكار المعارضة لنفسه بطريقة التزوير. وعلى ذلك؛ أصبح الموالون للنظام نمطيًا هم العلويين والمسيحيين وباقي الأقليات السورية! وكذلك نَعُدُّ الذين اضطروا إلى النزوح أو اللجوء خارج سورية معارضين، ومرة أخرى عَربًا سُنَّة، أما من بقوا في الداخل فهم أقليّات موالية!
وكذلك الحالُ، عندما نقول: معارض مقيم في الداخل، أو معارض موجود في الخارج، وفي هذه الثنائية عيبٌ كبيرٌ، لأن غالبية من يطلقون على أنفسهم معارضين، سواء أكانوا خارج سورية أو داخلها، سوف يهينون بعضهم عبر إطلاق حملات تشهير تصل في كثير من الحالات إلى حدّ تعميم التخوين المتبادل، من دون تدقيق أو تمحيص، وهكذا يرفعون بأيديهم سورًا من الكراهية، الأمر الذي منعهم من الالتقاء وحرمهم التفاهم.
ومن الأخطاء المصاحبة لتعميماتنا، نزوع تفكيرنا إلى آلية التصفية، بمعنى التغاضي عن أي إيجابية أو عن أي سلبية، إزاء الأشخاص والأحداث والمواقف التي سبق لنا أن صنّفناها؛ فالأسود يظلّ أسود، والأبيض يظل أبيض، بغض النظر عن التغيرات أو التطورات التي طرأت على مواقف الأفراد والجماعات. ودرجة التصفية- الانحياز- هنا ترتبط بدرجة قربنا أو بعدنا عاطفيًا من هذا أو أولئك.
يسمح لنا الدخول في تفاصيل الثنائيات بأن نتأكد من أننا -السوريين- قد حجزنا أنفسنا في معسكرات من النوع السياسي-العاطفي، وتحصنّا داخلها وخلف متاريس ساهمنا في إقامتها، أو أنها أقيمت لنا، وما زال أغلبنا أسرى لها، على الرغم من فظاعة النوائب التي حلت بنا جميعًا.
يُطلق مصطلح جمهور الموالاة/ الموالين على من انحازوا إلى / والوا النظام، بعدما صدّقوا روايته التي تفترض تعرّض “الوطن” لهجمة إرهابية-طائفية، وعلى ذلك؛ فإن كل من خرج بتظاهرات تدعو لإسقاط النظام هم من السُنّة الوهابيين المتشددين والعملاء المأجورين، الحاقدين على النظام الوطني المقاوم للإمبريالية والصهيونية. هكذا يتم إطلاق حكم قيمة معمّم على المعارضين للنظام!
والموالون/ المؤيدون ليسوا على درجة واحدة من الموالاة، فبينهم المؤيد بشدة، ومنهم المؤيد، وهناك المؤيد إلى حدٍ ما. وعلى ذلك فقد راوحت تعبيراتهم عن دعم النظام -بالقول أو بالفعل- ما بين الاستعداد لحمل السلاح والانخراط الفعلي في صفوف التشكيلات المقاتلة “لجان الدفاع الوطني”، وتنفيذ المهمات ذات الطبيعة العنيفة ضد جماهير المعارضة، إلى المشاركة في المسيرات “الجماهيرية” التي نُظمت في الأشهر الأولى لمواجهة تظاهرات القوى المعارضة للنظام، مرورًا بأولئك الذين انبروا يدافعون عن رواية النظام، على المستوى السياسي-الإعلامي.
فيما عبَّر سوريون آخرون عن معارضتهم للنظام، وانحازوا إلى فكرة الثورة، أملًا بإحداث تغيير عميق في بنية الدولة والنظام. وهؤلاء راوحت معارضتهم بين معارضين جذريين أشداء، كرّسوا طاقتهم لتأمين استمرار جذوة الحراك الجماهيري، وكانوا من أوائل الذين استهدفتهم قوى الأمن، وتعرّضوا لعنف شديد وصل في حالات كثيرة إلى الاعتقال والتصفية الجسدية، مرورًا بالمعارضين الذين شكلوا جسد التظاهرات، والحراك السلمي، وصولًا إلى معارضين بالفكر والرأي، وتبعًا لذلك فقد تباينت تعبيراتهم السلوكية بين المشاركة اللفظية، إلى المشاركة في الأنشطة السلمية، وبخاصة التظاهرات والانخراط في النشاط الإعلامي، إلى تنظيم اللقاءات والندوات، إلى التطوع في الميدان الطبي الإسعافي والإنساني، وصولًا إلى الانخراط في العمل العسكري في مرحلة لاحقة بعد سقوط عدد كبير من المتظاهرين برصاص قوات النظام.
لقد نظر المعارضون إلى الموالين على أنهم عملاء للنظام وقواه الأمنية، واتهموا بالطائفية، وتم حشرهم في طوائف واثنيّات، ومناطق معينة. ويمارس المعارضون التعميم ذاته، ولكن بالمقلوب بحق الموالين. لقد أدار النظام عملية التعبئة السياسية والعاطفية بجدارة ضدّ خصومه، ناشرًا بين أنصاره الكره والحقد والعدوانية، وفي المقابل لعبت بعض الأبواق “المعارضة” دورًا تحريضيًا طائفيًا واثنيًا، على كل من والى النظام، مستخدمين أدوات الشحن الطائفية والقومي، وقد رسّخوا بعملهم هذا أجندة النظام ومن والاه.
وبين المؤيدين للنظام، والمعارضين له، هناك الصامتون، أو المحايدون الذين لم يعلنوا مواقفهم لأسباب متعددة، وقد يكونون قد وجّهوا لومهم إلى طرفي الصراع، وظلّوا محافظين على مواقفهم، وقد تلقوا اللوم من قبل المعارضين والموالاة على السواء.
مع تصاعد حدة العمليات الحربية، بعد دخول قوى مقاتلة خارجية إلى سورية هي دول وميليشيات طائفية ومرتزقة لصالح النظام، وتوافد المقاتلين أصحاب الرايات السوداء لنصرة “أهل السُنّة”، ومع اتساع رقعة الحرب جغرافيًا، واستخدام صنوف الأسلحة ذات القدرات التدميرية الكبيرة، وارتفاع أعداد المعتقلين والقتلى من المدنيين، واتساع مناطق الحصار والتجويع لسكان مناطق وتجمعات المعارضة، وفي بعض الأحيان لبلدات موالية، فقد عمّت الفوضى وانعدم الأمان عند جميع السوريين، ودفع ذلك أعدادًا كبيرة منهم إلى النزوح إلى مناطق أكثر أمنًا داخل البلد، وسريعًا واللجوء إلى بلدان العالم المختلفة، فيما بقي سوريون آخرون في مناطق إقامتهم، إما لأن مناطقهم لم تكن مستهدفة عسكريًا، لكون غالبية سكانها من المؤيدين للنظام/ الموالين، أو لأنهم لم يكونوا على عداء معه، بعضهم ينتمون إلى أقليات دينية، فيما تجنب سوريون آخرون الانخراط في الصراع المسلح، وعبروا عن مواقفهم من خلال رفض التجنيد في صفوف قوات النظام والمعارضة.
هكذا وُلدت ثنائية “الداخل-الخارج”، والتحمت بثنائية “الموالاة-المعارضة”، ونمت على هامشها ثنائية فرعية تسمّى “معارضة الداخل-ومعارضة الخارج”. إنه تصنيف جائر إلى حدٍ ما، مارسه الطرفان بحق بعضيهما، فقد كان بعض ممن بقوا في الداخل معارضين للنظام بحقّ، وتمكّنوا من حماية أنفسهم من بطش قوى الأمن بأشكال مختلفة، وأعلنوا موقفهم المعارض للنظام من خلال إدانتهم للحرب والقتل والاعتقال، وكذلك وجهوا اتهامات شديدة للمعارضين الآخرين، واتهموهم بالسعي لاستعداء القوى الخارجية، وطلب تدخلها عسكريًا.. إلخ. وبالمقابل؛ وصفهم المعارضون الخارجيون بأنهم معارضة ضعيفة، وغير جدّية، أو معارضة مُصنعة.
لماذا نتناول هذا الموضوع اليوم؟ وما الغرض من ذلك؟
لقد شهدت لوحة الصراع على سورية تغييرات كبرى، استنادًا إلى ما آلت إليه الأوضاع العسكرية والسياسية والاقتصادية والمعيشية… الخ، فقد انتصرت القوى المساندة للنظام عسكريًا، ولكن حاضنته خسرت عشرات آلاف الشباب في معارك عبثية لا لزوم لها، وتدهورت أوضاعهم المعيشية، وتضاعفت معاناتهم اليومية، وهم يُجاهدون في سبيل تأمين أبسط متطلبات الحياة اليومية، ليس بسبب ندرة توفرها فحسب، بل لارتفاع أسعارها مع انهيار قيمة العملة المحلية، في وقتٍ تشتد فيه عمليات النهب والفساد وتزدهر عمليات الخطف والسلب. وفي المقابل، خسرت الحاضنة الشعبية المؤيدة للثورة مئات الآلاف من أبنائها، قتلًا في السجون أو في المعارك الحربية أو من جراء القصف الحربي، وانتهى بهم الأمر إمّا إلى مخيمات أقاموها تحت أشجار الزيتون أو في العراء المطلق في شمال غرب سورية، أو إلى مُخيمات بائسة تفتقر إلى أدنى متطلبات الحياة الإنسانية، في بعض البلدان “الشقيقة”، وسط مناخات سياسية-نفسية مشحونة بالتعصب والعنصرية والعزل والتضييق. فيما توزع الآخرون على بلدان القارات الخمس، يكابدون آلام الغربة وصعوبات التكيف، على الرغم من نجاح بعضهم في ميدان العمل أو الدراسة. وفوق كل ذلك، وجد السوريون في نهاية المطاف العديد من القوى الأجنبية تمسك بزمام الأمور وتتحكم في مفاصل البلاد الحيوية! لقد خسر السوريون كلّ شيء.
إذن، نتحدّث هنا عن مطلب السلم الأهلي بين السوريين، من خلال العمل على المستويين الفكري والعاطفي لهدم جدران الثنائيات. فمن حق السوريين أن يكتشفوا أنفسهم من جديد، بعيدًا عن أي تصنيف سياسي واثني وديني ومذهبي، فهم في النهاية أهل البلد، تجمعهم الوطنية السورية باعتبارها هويتهم النهائية.
بالطبع، ليست الغاية من دعوة نشر ثقافة السلم الأهلي بين السوريين السعي لدفعهم إلى التخلي عن أهدافهم التي آمنوا بها وضحّوا من أجلها وما زالوا، بل هي دعوة لكل سوري من أجل الخروج من إسار الثنائيات، والنظر إلى الأشياء بمنظار مختلف، كي لا يعمم، ولا يطلق أحكامًا مسبقة أو قاطعة ونهائية، هي دعوة لأن ننزع عن عيوننا المِصفاةَ التي لا ترينا إلا ما نريد رؤيته، دعوة للتمرين على التفكير الموضوعي الناقد.. دعوة لرؤية الخير في قلب كلّ أقطاب الثنائيات، تمهيدًا لمدّ جسور التواصل بين السوريين وهدم جدران الكراهية.
الثنائية الوحيدة التي علينا الاحتفاظ بها، إلى أن يأتي يوم الحساب، هي: سوريون سلميون، في مواجهة سوريين مجرمين قتلة. وهذه دعوة لكل السوريين، باستثناء المتورطين في الدم السوري، وجميع من ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وتورطوا في عمليات التعذيب، وكذلك جميع المتورطين بنهب المال العام. هؤلاء هم أعداء السلم الأهلي وهدم جدران الخوف والكراهية، وفي مقدمتهم أمراء الحرب والفساد.
لجميع هؤلاء محاكم عادلة تليق بهم.
إن مدّ الجسور ونشر روح السلام الأهلي بين السوريين ضرورةٌ لا بدّ منها لقيام أوسع تحالف يضمّ القوى الوطنية الحيّة من أبناء سورية، وتجمعهم فكرة الوطنية السورية، وإذا تمكّنوا من تحقيق هذه المهمة، فيمكن القول إن السوريين أمسكوا مصيرهم بأيديهم.
.