قارئ شلينك: مأزق الحب والحرب

قارئ شلينك: مأزق الحب والحرب

ما الباعث على كون القاضي روائيا ؟ لا يمكنني تفادي هذا السؤال، الذي قد يلقى تسامحا كبيرا حول ما يجعله ممكنا كإشكال، فقط إذا استحضرنا الهاجس التاريخي للرواية، الذي يشدنا على مستوى اقتضاءات الفهم، إلى عالم الوقائع . نضع أمامنا افتراضات عديدة؛ القاضي/الروائي ربما يضع العدالة كقضيته أو ربما يستأنف هوسه بالحقيقة في الرواية، حيث كلما كنا بين الحب و الحرب، احتجنا دائما إلى قضاة صارمين، لأننا إزاء عاطفتين إنسانيتين شديدتي التشويش و لنقل ” اختيارين ” لا يخلوان من فداحة : الحب أم الحرب ؟

مايكل بيرج، الشاب الذي يبحث عن الحدود القصية لفكرة القانون، فكرة خلاص الجماعة من وعيها الآثم، بدلا من خلاص الفرد و هروبه، تماما كما يفعل مع قدره الشاعري ” هانا”، حبيبته التي كانت تتهادى في رشاقة و غواية لا علاقة لها بالنهود و الأرداف و السيقان، بل بالدعوة للاستكانة داخل الجسد و نسيان العالم. ها هي الآن تخفق في إيجاد تسوية مع الماضي، ماضيها كحارسة بمعتقلات النازية، تواجه شعبا سئم ثقل ذلك الماضي النازي البائس، يريد التحرر منه و تخطيه، يريد تمنيع العدالة عن ” التقادم “، لكي تنتأ لديه صورة جديدة عن نفسه ، لذا فهانا تواجه شغفا عاما لإدانة الماضي و إدانتها و تواجه نظرات مايكل الباردة و المحايدة، ففي الحب كما الحرب، ينبغي أن يكون الانحياز مفضوحا، لأنها مناطق تملك عدالتها الخاصة . الشاب اليافع ذو 15 عاما، شريكها في الحياة و السرير و الأدب، شريكها في علاقة متمردة، الطفل الذي كانت تحممه في حوض منزلها و تمنحه ” الدفئ و الصخب” مقابل معرفته الواسعة بالتاريخ و الأدب و قراءته الهادئة بصوت مسموع، للحرب و السلام، الحب و المكائد، أوديسة هوميروس و أشعار ريلكه..، يسعى لتخطي تاريخهما الشخصي، متنازلا لصالح مرغوبية الجماعة . هل تملك ” الجماعة” دوما اعتراضات أخلاقية على تحيزاتنا الصغيرة ؟ ألم يكن عادلا أن يتواطأ مع عاطفته، مع امرأة كانت تمنحه حياته كاملة في ليلة واحدة ؟

واصل “مايكل” الهرب داخل ردهة المحكمة، كما نفعل جميعا، في أحايين كثيرة، لكن نظرات “هانا” تصيبه، تعثر عليه و تتفحصه بعمق، تستعيده وقتما شاءت، حيث تملك بعض النظرات نفوذا علينا، لا تسعنا مراوغتها، كل ما نفعله هو الاستسلام لاستجواب صامت و قاس . تفكر ” هانا” في برودة الزنزانة المحتملة و عزلتها، في هؤلاء الذين يتطلعون لها، باحثين عن إجابات عادلة لماضيهم و مستقبلهم، بشراهة مفتوحة للحقيقة، فلا يمكنهم تحت أي ظرف، إنكار واقعهم الخاص، لذلك فهم ملزمون بالمضي قدما في مصالحاتهم الاجتماعية، مؤمنين بأن ولادة ” الغذ ” عنيدة، ذلك ” الغذ” الذي يدرك فيه الجميع أن ألمانيا الكانطية لا تملك أي عداء للعالم و للإنسان، أما ” هانا” فستبقى مربوطة إلى مصير شديد التركيب، ” الإقامة” بين حادثة الحب الشخصية و حادثة الحرب العامة .

قد يبدو الميل نحو الكرامة الإنسانية، حين تبدو الخيارات ضئيلة” شاقا “، لكنه يبقى ضروريا و حاسما و كل ما دونه، يجعل الجميع يبحث عن إنصاف المشاعر العامة، رغم أن لكل منا آثامه الشخصية الشنيعة . لم تكن ” هانا” سوى حارسة معتقل ضعيفة الحيلة، رغم أن الأمر لا ينفي تورطها و تخاذلها في إنقاذ مئات الناس المحتجزين داخل كنيسة تلتهمها نيران الحرب، لكنها لا ينبغي أن تتحمل أوزار الحرب لوحدها، كما على مايكل أن يتحمل لوحده و لوحده فقط، أوزار الحب و أن يفي بواجبه القلبي، لم يكن مضطرا للحديث المنهك باسم الحقيقة، باسم تاريخ الحقيقة الذي تكتبه الولاءات الشخصية . ماذا يعني أن يكون الإنسان كائنا أخلاقيا؟ هل يعني ذلك اللحظة القصوى لحضور “الجماعة” فينا، أي النقطة التي نخفي داخلها تقصيراتنا الذاتية، مخاوفنا و اضطراباتنا، لكي ينحل كل التزام ذاتي اتجاه العالم ؟ هذا موضوع حديث مايكل عن جيله و عن ملحاحية التخلي عن ” التوقعات الأبوية” و عن انمحاء الوعي الأخلاقي للأفراد أمام جرائم النازية، لكونه وعيا لا يحتمل أن يقدم نفسه ربما، كشجاعة و تمرد مشروط بتجرد إنساني .

تعبر الرواية عن الرغبة الألمانية في اجتياز الماضي بدل تجاهله، تدافع عن تصور خاص للقوة، تلك القوة التي لا يمكنها أن تظل موضوع إخضاع مادي للأشياء أو تنعكس في بطولات النازية العسكرية، التي يملك اتجاهها الألمان شعورا مريبا بالخزي و العار، يسعون إلى التنكر لها و عزلها في أكثر مناطق الذاكرة الإنسانية رعبا و قتامة . القوة فارق وجودي، يحتضنه كل مجتمع يملك مقومات تاريخية تجعله ينتمي للعالم و تجعل العالم ينتمي له، كأن يملك الوطن شاعرا أو فيلسوفا( سقراط يونانيا و محمود درويش فلسطينيا)، إنه أمر غير قابل للاحتكار أو السطو . الصوت القابع في كل فرد منا و الذي يذكرنا بكل ما يمكن أن يعنيه ” الإنسان ” كأفق مفتوح نحو الأشياء الجميلة، لكن ينبغي أن تسمح لنا هذه الرواية/المداخلة الأخلاقية الجميلة باستضافة بعض الأسئلة التي تهم ” آدميتنا الكونية” : هل على الفلسطينيين البحث عن تكافؤ منطقي لألمهم أيضا، كي يكون مظلومية تاريخية، حتى يصير جديرا بإصغاء العالم و انتباهه ؟ ألم تورد حنة أرندت، كيف أن المدعي العام في محاكمة أدولف أيخمان، تحدث بعبارة مرموقة ” إننا لا نقوم بفروقات عرقية ” ؟ أليس للألم و القبح نفس الوقع، في كل الأزمنة ؟

كان اعتراف ” هانا” بكونها لا تجيد القراءة و الكتابة، سيخفف الحكم و سيجنبها تحمل مسؤولية التقرير الذي يؤرخ لحادثة احتراق الكنيسة، لكنها اعترفت بكل شي، ما عدا جهلها، بدا اعترافا مؤذيا للكرامة، بدا الجهل حافزا لارتكاب كل الحماقات و الفظاعات .

منشور سابقاً في : موقع كوة
هوامش :
“القارئ” أو عندما يكون الجنس مقابلا للقراءة. أُنتج سنة 2008 وهو تجسيد لرواية للكاتب الألماني برنارد شلينك التي تحمل نفس الاسم. تقص أحداث الفيلم العلاقة المثيرة بين الصبي المراهق “ميخائيل بيرغ” والجميلة “هنّا شميتز” التي تبلغ من العمر 36 سنة، لكنها أمية، ونظرا لتعطشها الكبير للقراءة – التي لا تجيدها- يقوم ميخائيل بالقراءة لها وتكتفي هي بالإصغاء لتلبغ المتعة الفكرية ومقابل ذلك تمنحه هي المتعة الجسدية، لتتحول العلاقة بينهما إلى علاقة غرامية مشروطة، هذه العلاقة التي إنقطعت بمغادرة هنّا المدينة دون علم ميخائيل، بعد ترقية عمل. تحولت أحداث الفيلم لاحقا مع ميخائيل طالب حقوق في جامعة هايدلبرغ، ليتابع محاكمة حول أحداث دارت في ألمانيا في معتقل نسائي لأسرى يهود توفيت فيه 300 امرأة يهودية. شاءت الصدف أن تكون صديقته السابقة “هنّا “إحدى حارسات ذلك المعتقل أثناء الحادثة، والمتهمة الأولى في الملف. كان بإمكان ميخائيل إنقاذ هنّا من السجن المؤبد بإفشاء سرّها الذي تخجل منه كونها أمية. لكن تسترها عن هذه الصفة المشينة أمام القاضي منعه من البوح بالسر لتقبل بالسجن مدى الحياة حيث ستكرس انا حياتها لتعلم القراءة والكتابة
شارك هذا المقال :

التعليقات 0 تعليق
اكتب تعليق ...