باريس ومصير ودائع اللبنانيين ومصارفهم!‏

باريس ومصير ودائع اللبنانيين ومصارفهم!‏

لم تكن باريس بحاجة الى مبادرة الرئيس ايمانويل ماكرون، حتى تكون محور اهتمام صانعي ‏القرار في لبنان، فهي قبل المبادرة وبعدها، تلعب دور منسّق "حلم الإنقاذ" اللبناني، إذ إنّها، حتى ‏إشعارآخر، المدخل المعتمد لضخ الأموال التي يحتاجها لبنان، على اعتبار أنّها العمود الفقري لما ‏تبقى من أموال مؤتمر "سيدر"، وللمجموعة الدولية لدعم لبنان وتالياً لتوجّهات "صندوق النقد ‏الدولي" الذي لم تثمر محادثاته مع الحكومة اللبنانية، قبل أن تنقطع كلياً مع استقالتها.‏

ولهذا السبب، تصب اهتمامات جمعية المصارف على العاصمة الفرنسية. ‏
وهذا الاهتمام لم يتجلّ في زيارة وفد رفيع من الجمعية للمسؤولين عن الملف المالي في الإدارة ‏الفرنسية فحسب، بل في لقاءات دورية يطلبها مسؤولون مصرفيون لبنانيون، في محاولة منهم، ‏لإدخال تعديلات على النظرة الفرنسية للمخارج الواجب اعتمادها للأزمة المالية.‏

لماذا يطلب هؤلاء تعديلاً في المخارج التي تقترحها باريس أو تتبنّاها؟
في المجالس المغلقة، ثمة كلام كبير عن مآلات المخارج كما هي مطروحة راهناً، إذ إنّ من شأن ‏اعتمادها إسقاط جاذبية ما سيتبقى من النظام المصرفي اللبناني وإدراج لبنان، لفترة طويلة، في ‏قائمة الدول الفقيرة.‏

وباريس، وفق مصدر مصرفي لبناني رفيع المستوى، تسير بنهج رسمه بعض الطامحين ‏لاحتلال أرفع المناصب في المصارف اللبنانية، من مدراء عامين سابقين ومستشارين في ‏رئاستي الجمهورية ومجلس الوزراء.‏

وتُلاقي طروحات هؤلاء "الطامحين" تطلعات بعض المعنيين الفرنسيين بالملف اللبناني، إذ إنّهم ‏ينتمون الى مدرسة تُقدّم مصالح القطاع العام، على كل ما يتصل بالقطاع الخاص. ‏

وتشتبه المصارف اللبنانية بوجود توجّه جدّي لـ "تأميم" المصارف التي ستتمكّن من أن تُنقذ ‏نفسها من إلزامية الدمج.‏

ولمواجهة هذا التوجّه فإن المصارف اللبنانية ترفض خطوتين تتكاملين وهما الـ "هير كات" والـ ‏‏"بايل إن"، على اعتبار أن تسييل الودائع لامتلاك أسهم في المصارف، سواء بالإقتطاع أم ‏بالإكتتاب، من شأنه أن يقضي على قيمة الودائع بسبب تهاوي أسعار الأسهم من جهة أولى، ‏ويسمح بتغيير إدارة المصارف، من جهة ثانية.‏

إنّ تحويل الودائع إلى أسهم يعني تشتيت الملكية المصرفية بين عدد كبير من المساهمين الصغار، ‏الأمر الذي يسمح للحكومة أن تسمّي هي من تريده، لإدارة هذه المصارف، بعد تقليص حجمها.‏

وهذا يعني إجبار المالكين الحاليين للمصارف على تحمّل كل الخسائر التي تكبدتها الدولة، ‏والتخلي عن ملكياتهم في الداخل والخارج، وتسليم القطاع المصرفي الى "منظّرين" ليس بينهم ‏من يعرف "سرّ المهنة"، بعد إفقاد النظام المصرفي اللبناني جاذبيته، من خلال إلحاق خسائر ‏كبيرة بالمودعين.‏
بالنسبة للمصادر المصرفية اللبنانية إنّ هذا التوجه "الإفلاسي" يلاقي هوى فرنسياً، لأنّه يسمح ‏بـ"تصفير" ديون الدولة الداخلية، في مقابل "تقسيط" الديون الخارجية.‏

ولكن، لماذا هذا التوجه يُلاقي هوى فرنسياً؟
لأنّه، وفق المصادر، يسمح بـ"تقطير" القروض التي قد يمنحها صندوق النقد الدولي للبنان، على ‏اعتبار أن حاجة الدولة اللبنانية الى المال الإنفاقي سوف تنخفض، في حين أن الولايات المتحدة ‏الأميركية ودول مجلس التعاون الخليجي لن تدعم المالية اللبنانية، طالما أنّ "حزب الله" يلعب ‏أدوارا عسكرياً لمصلحة الأجندة الإيرانية.‏

بمعنى آخر، أن لبنان يجب أن يحتاج الى مال قليل، لأنّ توفير ما يحتاجه فعلاً سيبقى متعثراً ‏لأسباب سياسية.‏

وتقليص حاجة لبنان الى الأموال الخارجية يقتضي تحميل المصارف خسائر الدولة اللبنانية، ‏وتالياً تحميل المودعين العبء الأكبر من هذه الخسائر، في حين سوف يتم تحميل الطبقات ‏الشعبية اللبنانية، على اختلافها، كلفة قاسية ناجمة عن تعويم الليرة اللبنانية بالتوازي مع توقف ‏الدولة عن دعم الخدمات والحاجات الأساسية ورفع الضريبة على القيمة المضافة.‏

ولكن ما هو البديل المقترح؟
الإقتراحات البديلة متوافرة لكنها لا تلقى، حتى الساعة آذاناً صاغية، ومنها على سبيل المثال:‏

‏-‏ إنشاء صندوق سيادي يستثمر ممتلكات الدولة ومقدّراتها ويديرها، من دون أن يبيعها، ممّا ‏يمكن الدولة، في برنامج متوسط الأمد، أن تفي ديونها المترتّبة عليها للمودعين وتالياً للمصارف.‏

‏-‏ تضع المصارف خطة بالإتفاق مع المودعين لإعادة أموالهم على مدى عشرة أعوام، ‏الأمر الذي يُكسِب مجدداً الدولة اللبنانية المصداقية التي تحتاجها لإعادة جذب الإيداعات من ‏الخارج، على اعتبارها، فعلاً، ملتزمة بنهجها الإئتماني التاريخي. ‏

‏-‏ إن القطاع المصرفي في لبنان هو العمود الفقري للإقتصاد اللبناني، ويفترض أن تتضافر ‏كل الجهود، من أجل حمايته وتحصينه، بدل التضحية به، في مغامرة غير محسوبة النتائج.‏

‏-‏ عدم السماح بإطلاق نظريات "عشوائية"، مثل اعتبار المسؤولين المصرفيين في لبنان، ‏منعدمي الكفاءة، لأنّهم وافقوا على إقراض الدولة الأموال التي تحتاجها، لأنّ هذا النوع من ‏النظريات يصيب المجتمع الدولي الذي سبق له، مرارا وتكرارا، أن دعم الدولة اللبنانية، كما ‏يصيب كل مواطن لبناني إستثمر في وطنه، فعدم الكفاءة، في الحالة اللبنانية، ليست لدى من أمّن ‏للدولة أموالاً بل لدى من استلم الدولة وأدار شؤونها، أي مع هؤلاء الذين تتعاون معهم باريس ‏لإعادة بناء السلطة في لبنان.‏

‏-‏ إن لبنان دولة "إستثنائية" كانت تقتضي تعاملاً إستثنائياً، إذ إنّ "حزب الله" الذي يعتبر ‏جزءا لا يتجزّأ من النظام يخوض حروباً مفتوحة، ويعرّض لبنان لتهديدات بالحروب ويتسبّب ‏بقطيعة للبنان مع الدول التي طالما دعمته مالياً واقتصادياً. وهذا خيار لا تتحمّل المصارف ‏مسؤوليته بل مؤسسات الدولة الدستورية، كما الطبقة السياسية.‏

ولكن كل هذه المبررات لا تلقى آذاناً صاغية، حتى الآن، في باريس، فهل ذلك مجرد خلاف ‏تقني أم أن هناك أبعادا سياسية؟

رداً على هذا السؤال، تلقى الجواب في الرواية الآتية:‏
في خلال مؤتمر باريس-2 خرج الرئيس رفيق الحريري سعيداً جداً، من إحدى الجلسات، وأخبر ‏المحيطين به أنّ ممثل الصندوق النقد الدولي كان يصر على وجوب تعويم الليرة اللبنانية، ولكنّ ‏الحريري جادله رافضاً، بسبب تأثير ذلك سلباً على الاقتصاد اللبناني وعلى أمان اللبنانيين. عندما ‏احتدم النقاش، همس وزير الخارجية السعودية آنذاك الأمير سعود الفيصل في أذن الحريري بأن ‏يترك ممثل صندوق النقد وشأنه، ولمّا أبلغه الحريري أنه مضطر أن يجادله، ذلك نظراً لتأثيرات ‏هذا الصندوق على لبنان، قال له الفيصل:" يا رفيق، دعه يتحدّث، فصندوق النقد الدولي هو ‏نحن".‏

منشور سابقاً في : النهار
هوامش :
23/9/2020
شارك هذا المقال :
وسوم هذا المقال :

التعليقات 0 تعليق
اكتب تعليق ...