
إعلان الوطنية السورية بين الفردانية الليبرالية والجماعاتية اللا ديمقراطية
منذ بضعة أيام، أصدر بعض السوريين وثيقةً أسموها “إعلان الوطنية السورية”. وقد تضمنت تلك الوثيقة شرحًا لأسباب صدور هذا الإعلان، والمعنى المقصود ﺑ “الوطنية السورية”، ومبادئ هذه الوطنية، وأسسها المتعلقة ﺑ “الإنسان/ المواطن، والدولة السورية والدستور السوري، والنظام الديمقراطي، والحريات والسلم الأهلي، والثقافة الوطنية والوعي الوطني، وحقوق القوميات والجماعات الإثنية، وحرية المرأة وحقوقها، والجيش السوري والأجهزة الأمنية، والنظام الاقتصادي الجديد، والسياسة الخارجية السورية. كما تناول الإعلان نظام الحكم الحالي، وقوى الواقع الراهن، والعلاقات والتحالفات بينها وعلاقاتها بالقوى الخارجية، وقوى المستقبل المنشود والمنشودة. وتضمن الإعلان، في النهاية، تشديدًا على أنه ليس “قولًا فصلًا”، ولا “صيغةً مكتملةً ونهائيةً”، وإنما مجرد صيغة متجددة، قد تفضي إلى “مشروع تغيير وطني ديمقراطي سوري يحظى بأوسع مشاركة سوريّة ممكنة”.
كما هو متوقع، قوبل الإعلان بمزيج من الترحيب والتشجيع، من ناحية، والتجاهل أو الانتقاد والتحفظ، من ناحية أخرى. فقد أثار غياب وجود أسماء الأشخاص الذين أسهموا في صياغة هذا الإعلان، وإطلاق تلك المبادرة، امتعاض كثيرين ممن اعتادوا محاكمة مثل تلك المبادرات، من خلال النظر إلى أسماء أعضائها، بالدرجة الأولى. لكن هذا الغياب لم يمنع بعض هؤلاء الأشخاص من إبداء التحفظ على البيان، بسبب توقيع هذا الشخص و/ أو عدم توقيع شخص آخر. كما شكّك كثيرون في أهمية البيان، وجدواه، لأنهم رأوا أنه لم يضف جيدًا، ولأن مشكلتنا لا تكمن في “الوطنية”، أو في أي إعلان عنها أو لها، وإنما في مكان آخر لا يسهم الإعلان في معالجته. كما تناولت الانتقادات بعض مضامين البيان، لكونه، على سبيل المثال، يبالغ في ماهية الدور الذي ينبغي للجيش أن يقوم به، وفي مدى هذا الدور؛ وكانت هناك مخاوف من تحول الإعلان عن تلك الوطنية إلى أيديولوجيا للإقصاء، وتخوين المختلفين مع بعض مضامين تلك الوطنية، وفقًا لتوصيفها في الإعلان. أما الانتقادات والتحفظات الأبرز، والأكثر عددًا، فقد تناولت إشكالية العلاقة بين الفرد والجماعات العضوية والدولة. وسأناقش، فيما يلي، هذه الإشكالية، الحاضرة بقوة، ليس في “الإعلان، فحسب، بل في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والسياسية المعاصرة، أيضًا.
1 – الوطنية والسياسة بين فردية المواطن وانتماءاته الجماعاتية
ثمة تشديد كبير على أهمية “المواطنة” في أي نظام سياسيّ وطنيّ/ ديمقراطي. وعلى الرغم من أن المعنى الأولي والعام لهذا المفهوم واضح ومتفق عليه عمومًا، إلا أنه يوجد اختلافات مهمة، في خصوص مدى فردية هذا المواطن، وطبيعة علاقاته بالدولة والعملية السياسية وبالجماعة أو الجماعات العضوية التي ينتمي إليها نسبًا، ومدى مشروعية و/ أو ضرورة حضور هذه الانتماءات والجماعات، في المجال السياسي. ويمكننا التمييز بين رأيين أساسيين في هذا الخصوص: أحدهما يشدد على فردية المواطن، بوصفها أساسًا لحضوره السياسي، بما يقصي كل انتماءاته الجماعاتية، من المجال السياسي؛ والآخر يرى أن فردية المواطن لا تتنافى، بالضرورة، مع انتماءاته الجماعية، وأنه يمكن لحضور المواطن، في المجال السياسي، أن يتأسس، أيضًا، على تلك الانتماءات.
أ – المواطن هو الفرد، ولا مكان للجماعات والانتماءات الجماعاتية في المجال السياسي
يشدّد هذا الاتجاه على أن المواطنة/ الوطنية (الديمقراطية) تقتضي إبعاد كل الانتماءات الجماعاتية عن المجال السياسي. وعلى هذا الأساس، تتنافى تلك الوطنية مع أي أحزاب أو تنظيمات سياسية تتأسس على أساس إثني أو دينيّ. فالانتماءات الجماعاتية هي انتماءات قبل أو تحت وطنية، و/ أو فوق وطنية، وهي، في كل أحوالها، مضادة للانتماءات الوطنية، ومضادة لديمقراطية النظام السياسي التي تقتضي حضور المواطن بوصفه فردًا، وليس بوصفه منتميًا إلى هذه الجماعة العضوية أو تلك. والتنظيمات الوحيدة التي يمكن وينبغي للمواطن أن يحضر من خلالها، في المجال السياسي، هي التنظيمات المدنية والأحزاب السياسية، التي تتأسس على الانتساب (السياسي)، بعيدًا عن أي تسييسٍ لأي نسب أو انتماء جماعاتيّ. فهذه الانتماءات ينبغي أن تبقى في إطار المجال الثقافي، ولا ينبغي تسييسها أو إدخالها في المجال السياسي.
ويرى هذا الاتجاه انتفاء أي بعد ثقافيّ خاصّ للدولة. فهذه البعد الثقافي خاص بجماعة ما، دون أخرى، بغض النظر عن عدد أفراد هذه الجماعة أو تلك. فالحيادية الكاملة للدولة تعني تعبيرها عما يجمع كل مواطنيها. ونظرًا إلى أن القواسم المشتركة قليلة عمومًا بين أفراد أي دولة، يبدو تصور أفراد هذا الاتجاه للدولة تصورًا شكلانيًّا، من حيث افتقار الدولة، بمؤسساتها ووظائفها، لأي مضامين ثقافية أو معيارية خاصة.
ولتسويغ ضرورة تبني هذه الرؤية، في الحالة السورية، يرى متبنو هذا الاتجاه أن قيام الدولة الحديثة يقتضي، بالضرورة، تحييد الانتماءات الجماعاتية، في المجال السياسي السوري، فسوريا عانت، وما زالت تعاني، من تسييس هذه الانتماءات، وأفضى ذلك إلى هيمنة الاتجاهات الطائفية أو الإثنية أو المناطقية، ذات المنظور الضيّق، وغير الوطني، من حيث إنه مضادّ أو معاد، صراحةً أو ضمنًا، للوطنية السورية، ولأن تكون سورية وطنًا، ولأن يكون السوريون شعبًا واحدًا، بالمعنى السياسي للكلمة.
ب – الجماعات هي المكونات الأساسية للمجتمع والدولة وأساس العمل السياسي
يرى أنصار هذا الاتجاه أن الجماعات العضوية تمثل مكوّنًا أساسيًّا من مكوّنات كثير من المجتمعات والدول؛ ويذهب بعضهم إلى اعتبارها المكوّن الأكثر أهميةً. وانطلاقًا من ذلك، ينبغي الاعتراف بهذا الواقع، والانطلاق منه، في بناء الدولة أو بنيانها، وشرعنة العمل السياسي، على أساس الانتماء إلى هذه الجماعات العضوية. فمن الضروري أن تعبّر الدولة عن الواقع الاجتماعي والثقافي الجماعاتي، وينبغي للسياسة أن تتأسس على الانتماء إلى هذه الجماعة العضوية أو تلك، وعلى طبيعة العلاقة القائمة، و/ أو المنشودة، بين هذه الجماعات.
وإذا كان الاختلاف بين الاتجاه الجماعاتي والاتجاه الفرداني واضح، ويتمثل في الأهمية المعطاة للجماعة أو الفرد، أو لدورهما، في إطار الدولة والعمل السياسي؛ فإن ذلك الاختلاف ينبغي ألا يحجب الاختلافات الموجودة ضمن كل تيار. فعلى الرغم من الاتفاق المبدئي أو الأولي بين متبني الاتجاه الجماعاتي على أهمية الجماعة العضوية، في إطار الدولة والعمل السياسي، فإن اختلافات كبيرةً قد تبرز بينهم في كثير من المسائل الأساسية، في هذا الخصوص، وفقًا لنوع الجماعة التي ينتمون إليها، وحجمها، وموقعها، في الدولة والمجتمع.
فبعض أنصار هذا الاتجاه من المنتمين إلى أغلبية إثنية أو دينية أو طائفية ما، قد يرون مشروعية، بل وجوب، أن تعكس بنية الدولة ومؤسساتها وقوانينها وتوجهاتها هذه الأغلبية. فالدولة ينبغي أن تكون، لدرجة أو لأخرى، عربيةً أو عروبيةً، و/ أو إسلاميةً، إذا كانت الأغلبية المجتمعية عربيةً أو مسلمةً، نسبًا. وعلى الرغم من إمكانية تأثير ذلك، سلبًا في المساواة المواطنية، في الدولة، وفي ديمقراطيتها أو ديمقراطية نظامها السياسي، فليس من النادر أن يستند أنصار هذا التيار إلى فكرة الديمقراطية، ذاتها، ليبرزوا أنهم يمثلون الأغلبية، ويحقّ لهم المطالبة بذلك، وتنفيذه، وفقًا للديمقراطية ذاتها. وبغض النظر عن المطابقة غير الموضوعية التي يقيمها الجماعاتيون، عمومًا، بين الأغلبية السياسية والأغلبية الإثنية أو الدينية أو الطائفية، فإن بعضهم، على الأقل، يقع في مفارقة طريفة تتمثل في أنه يطالب بخضوع الدولة للأغلبية، وتفضيلها لثقافة هذه الأغلبية، وتوجهاتها الأيديولوجية الدينية أو السياسية، عمومًا، مع رفضه القاطع لنشوء فيدراليات على أساس دينيّ أو إثني، في بعض مناطق الدولة التي توجد فيها أغلبيات إثنية أو دينية أو طائفية مختلفة عن الأغلبية التي ينتمي إليها هذا “البعض”.
Z
وغالبًا ما يقع بعض الجماعاتيين من المنتمين نسبًا، إلى الأقليات المذكورة، في مفارقة مختلفة ومماثلة، في الوقت نفسه. فهم يرفضون اتسام الدولة، ومؤسساتها، ونظامها السياسي، بأي سمة تعبّر عن ثقافة أو توجهات الأغلبية العددية، الإثنية أو الدينية، لكنهم يطالبون، في الوقت نفسه، بحقوق سياسية خاصة، بوصفهم أقليات. فعلى سبيل المثال، وفي السياق السوري، ليس نادرًا مطالبة بعض الجماعاتيين الأكراد بإقليم فيدراليّ كرديّ، أو على أساس إثني، مع رفضهم القاطع للسمة العربية ليس للدولة فحسب، بل حتى لاسمها.
أحد أهم الشعارات التي يرفعها الجماعاتيون، عمومًا، وفي السياق السوري، خصوصًا، هو شعار “الواقعية”. وبمقتضى تلك “الواقعية المزعومة”، يشدد هؤلاء على أن الواقع السياسي السوري هو واقع جماعاتيّ، بامتياز. فالصراع “السياسي” العنيف أصبح صراعًا جماعاتيًّا عمومًا، وطائفيًّا (بين السنة والعلوية، خصوصًا) وإثنيا (بين العرب والكرد، على سبيل المثال او التخصيص)، خصوصًا. ويجب الانطلاق من هذا الواقع والبناء عليه، وأخذ حساسيات هذه الإثنية أو الطائفة و/ أو تلك في الحسبان. ويرى هؤلاء الجماعاتيون أن الدعوات إلى نظام سياسي وطني/ ديمقراطي، قائم على مواطنة الأفراد والمساواة بينهم في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن انتماءاتهم ونسبهم، هي مجرد دعوات حالمة وغير واقعية، من جهة، وليست مناسبةً سياسيًّا، ولا خيّرةً أخلاقيًّا، ولا مفيدةً عمليًّا، من جهة أخرى. ولا يرى بعض هؤلاء الجماعاتيين، في الدعوة إلى العلمانية، إلا قناعًا طائفيًّا للأقليات الدينية، وفي الدعوة إلى الفيدرالية إلا قناعًا انفصاليًّا للأقليات الإثنية، وفي الدعوة إلى الديمقراطية إلا قناعًا طائفيًّا وعنصريًّا للأغلبية الدينية الإثنية. وهكذا يُختزل الواقع السياسي في جماعات هوياتية متناحرة، ولا يؤخذ، في الحسبان، لا تاريخية هذه الظاهرة ولا محدوديتها، من حيث وجود أطراف أخرى كثيرة، تجاوز انتسابها الإرادي نسبها الإثني أو الديني او الطائفي، واختلف عنه، ولم يتأسس عليه سياسيًّا.
2 – في التوتر المحايث للعلاقة بين الديمقراطية والليبرالية
يمكن وصل العلاقة الإشكالية بين الاتجاهين الفرداني والجماعاتي بالتوتر الإشكالي الملازم للعلاقة بين الديمقراطية والليبرالية. فعلى الرغم من الصلة الوثيقة، في الديمقراطيات (الغربية) المعاصرة بين الديمقراطية والليبرالية، فإن العلاقات بينهما ليست ضروريةً من ناحية، ويشوبها توتر، فعليّ أو ممكن دائمًا، من ناحية أخرى. وإلى جانب التوتر بين الليبرالية الاقتصادية، في صيغتها “النيوليبرالية” خصوصًا، والديمقراطية التي تتضمن وجوب المشاركة الجماهيرية الفاعلة وتكافؤ الفرص في الميدان السياسي، ثمة تناقض أساسيّ أو مبدئي، بين الليبرالية (السياسية) والديمقراطية. ويكمن في هذا التناقض أن الأولوية لليبرالي تتمثل في الفرد وحرياته، في حين أن روح الديمقراطية أو أولويتها تكمن في التعبير عن (إرادة) الشعب، من خلال عملية الاقتراع أو الانتخاب، مثلًا وخصوصًا. الديمقراطية تتطلب إقرار الحقوق المدنية والسياسية العامة، كحقوق الاجتماع والتصويت والتعبير والرأي إلخ، وهي تلتقي مع الليبرالية، في هذا الخصوص، لكنها لا تتضمن بالضرورة إقرارًا بحرية الفرد الكاملة نسبيًّا في حياته الخاصة والاجتماعية، كما هو حال الليبرالية. فنظريًّا وعمليًّا، ارتبط الاعتراف بالحريات والحقوق الجنسية للمثليين، على سبيل المثال، بالتوجه الليبرالي، لا بالتوجه الديمقراطي، حيث إن ذلك الاعتراف حصل بناءً على مبادئ الليبرالية وتوجهاتها، وبغض النظر عن، أو على الرغم من، وجود أغلبية شعبية معارضة لهذا الاعتراف، في أحيان ليست قليلةً.
لا شك أن الحريات الفردية ضرورية، لأي نظام ديمقراطيّ جدير بهذا الاسم، لكن يمكن للديمقراطية أن تنتج خطابًا أو نظامًا يحد من بعض الحريات الفردية عمومًا، ومن الحريات غير المتعلقة بالمجال السياسي المباشر، خصوصًا. في المقابل يمكن للحريات (شبه) الكاملة أو المطلقة، في الميدان الاقتصادي، خصوصًا، أن تدمّر مسائل العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، ليس في الميدان الاقتصادي، فحسب، بل في الميدان السياسي، أيضًا. ومن هنا تأتي الإمكانية الدائمة لحصول صراع بين هذين المبدأين أو الموقفين. وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نفهم خوف كثير من الليبراليين والمنتمين، نسبًا و/ أو انتسابًا، إلى أقليات ما، من “طغيان الأكثرية” باسم الديمقراطية. في المقابل، يقدم كثيرون الديمقراطية الليبرالية، في أحدث نسخها الغربية، بوصفها وصفةً جاهزةً وناجزةً، مسبقًا، ولا تحتاج إلا إلى الاتباع، والتبني، والتطبيق، بدون قيد أو شرط، أو حتى نقاش، وبدون أي اهتمام بمدى أو كيفية تقبل أو قبول الأغلبية أو المجتمع لتلك الوصفة.
الليبرالية، في حدودها الدنيا، وفي الميدان السياسي، خصوصًا، شرطٌ من شروط ديمقراطية أي نظام سياسيّ. فبدونها لن يكون أفراد الشعب أحرارًا، لكي يستطيعوا التعبير فعلًا عن أنفسهم، أو إرادتهم، في المجال السياسي. لكنها في حدودها العليا غير المضبوطة قد تفضي إلى ما هو غير مقبول ديمقراطيًّا، سواء من حيث المبدأ، أو من حيث التصويت والمقبولية الشعبية. وعلى الرغم من أن النظام الديمقراطي هو نظام أغلبية عمومًا، فإنه كان يفترض وحدةً ثقافيةً ما بين أفراد الشعب، في إطار الدولة – الأمة أو الدولة القومية، ولم يكن يكترث، كثيرًا، بالأقلية أو الأقليات، التي كان جُلَّ اهتمامها، وأقصى طموحاتها و”أحلامها”، أن يتم التسامح معها، ومع اختلافاتها، وليس الاعتراف بها، والإقرار بمساواتها، ومساواة الأفراد المنتمين إليها، مع الأغلبية، وأفراد تلك الأغلبية.
وعلى الرغم من أن ليبرالية الديمقراطيات الغربية قد ازدادت في العقود الأخيرة، لدرجة أنها أصبحت تعطي الانطباع بالتضمن المتبادل والتشابك الماهوي بين الطرفين، فإن التوتر والتناقض بين الطرفين ما زال قائمًا، ويظهر بقوة، في مناسبات كثيرة. ويبدو ذلك جليًّا، حين تتجه إرادة الأغلبية السياسية أو الشعبية إلى تبني وجهات غير مقبولة من منظور الدساتير والقوانين أو التوجهات ذات الطبيعة أو الأبعاد الليبرالية، والخاصة بحماية الحريات والأقليات والضعفاء عمومًا. وإذا كانت الليبرالية الاقتصادية المتزايدة تؤثر سلبًا في ديمقراطية أي نظام سياسيّ، فإن “الديمقراطية الزائدة” قد تؤثر سلبًا في ليبرالية هذا النظام، وربما في ديمقراطيته ذاتها، إذا اتفقنا أن الديمقراطية ليست مجرد عملية اقتراع أو انتخاب. فإلى أي حدّ ينبغي للديمقراطية أن تكون ليبراليّةً، وإلى أي حدّ ينبغي لليبرالية أن تكون ديمقراطيةً؟ هذه إشكالية نظرية، ومشكلة عملية، تواجهان كل ديمقراطية (ليبرالية) معاصرة، ويزداد تعقيد هذه الإشكالية، وتزداد حدة تلك المشكلة، في الديمقراطيات الناشئة، أو عند السعي إلى إنشاء ديمقراطية (ليبرالية) ما.
3 – نحو استيعاب جدليّ للتوتر بين الليبرالية الفردانية والجماعاتية (غير) الديمقراطية
يحاول إعلان الوطنية السورية التوفيق بين الفردانية والحريات الفردية، من جهة، والجماعاتية والحقوق الجماعاتية، من جهة أخرى. وقد أثارت مضامين هذا التوفيق، الجزئي والنسبي، اعتراضات من أنصار كلا الطرفين، بقدر محاولتها تقديم ما بمكن أن يُرضي كليهما، في إطار تركيب أعلى. فمن ناحية أولى، يتحدث البيان عن المواطن بوصفه إنسانًا، وبوصفه فردًا، وليس بوصفه كائنًا ثقافيًّا منتميًا إلى هذه الجماعة الدينية أو الإثنية أو تلك. في المقابل، يشدد البيان على أن الانتماء إلى الوطنية السورية ليس “نقيضًا أو بديلًا للانتماء القومي أو الديني أو الطائفي”، ويذهب إلى درجة الإقرار، ليس بالحقوق الثقافية والاجتماعية ﻟ “القوميات والجماعات الإثنية” فحسب، بل إلى الإقرار بحقوقها السياسية أيضًا.
وقد أثار الحديث عن تلك “الحقوق السياسية” كثيرًا من علامات الاستفهام والاستهجان. فلم يكن واضحًا المقصود بتلك الحقوق، وخشي البعض أنها قد تتضمن قبولًا ضمنيًّا ﺑ “الحق في الانفصال”، ولا سيما أن الإقرار بالحقوق السياسية حصل في إطار الحديث، ليس عن “الجماعات الإثنية” فحسب، وإنما عن “القوميات” أيضًا. كما بدا الاقتصار على ذكر الإثنية الكردية بالاسم، وتجاهل الإثنيات الأخرى، أمرًا غير مسوغ، وغير مقبول، عند كثيرين، حيث ظهر هذا التخصيص كما لو أنه يحابي جماعةً إثنيةً، على حساب الجماعات الأخرى.
من الضروري الانتباه إلى خصوصية وضع الإثنية الكردية في سورية. فهذه الخصوصية قد تسوّغ الاهتمام الخاص الذي أولاه الإعلان لتلك الجماعة الإثنية. فهذه الإثنية هي ثاني أكبر إثنية سورية، وقد عانت، معاناةً كبيرةً، من ممارسات النظام العنصرية والتمييزية تجاهها، ولهذا السبب ثارت شكوك، بل تشكيكات كبيرةً، محقَّةً حينًا، وغير محقة، أحيانًا أخرى، بوجود نزعة انفصالية لدى “بعض/ معظم” السوريين الأكراد، على الأقل. ورأى كثيرون في تشديد بعض الأكراد على الحق المبدئي “المزعوم” في الانفصال دلالةً قويةً على وجود هذه النزعة. وتزايدت هذه الشكوك مع هيمنة حزب PYD، المرتبط بقيادات وأجندة غير سورية، على منطقة الجزيرة السورية. ثم تصاعدت التوترات بين قوًى كردية وعربية، مع احتلال “قوًى عربية معارضة” لبعض المناطق ذات الغالبية الكردية، واحتلال “قوًى كردية” لمناطق ذات أغلبية عربية، والإسهام في تدميرها وقتل أو تهجير سكانها. كل ذلك، وغيره، أضفى طابعًا خاصًّا على وضع السوريين الأكراد، عمومًا، لدرجة رأى “الإعلان” أنها تقتضي الإقرار بوجود “قضية كردية” في سورية، وبأن الإثنية الكردية لها، ليس حقوقًا اجتماعيةً وثقافيةً، فحسب، بل حقوقًا سياسيةً أيضًا.
وعلى الرغم من أن القول بالحقوق السياسية (قد) يعني، من حيث المبدأ، الإقرار بالحق في الانفصال، وهو ما أثار امتعاض واعتراض بعض “الجماعاتيين العرب”، فإن الإعلان يشدّد أكثر من مرة على أن تلك الحقوق، وغيرها، محدودة ومشروطة بالإقرار بوحدة سورية، أرضًا وشعبًا. وقد أثار ذلك البند استهجان بعض الجماعاتيين الأكراد الذين رفضوا هذا التقييد، وأصروا على أن للسوريين الأكراد حقًّا، مبدئيًّا، بالفيدرالية الإثنية، على الأقل، وبالانفصال الكامل، على الأكثر. لكن من الواضح أن الحديث عن هذا الانفصال يتنافى مع أبسط مقومات “الوطنية السورية”، بالمعنى الوصفي، وليس المعياري، لتلك الوطنية، على الأقل. ولهذا فإن المعنى الأدق لتلك الحقوق السياسية، في الإعلان، يتمثل، مثلًا وخصوصًا، في حق الأفراد المنتمين إلى جماعة إثنية ما، في ممارسة السياسة وتنظيم أنفسهم سياسيًّا أو إنشاء أحزاب سياسية، على أساس انتمائهم الإثني، أو للتعبير السياسي عن الهموم والتطلعات الخاصة بتلك الإثنية، من منظور هؤلاء الأفراد.
ولا يبدو واضحًا سببُ اقتصار البيان على الحديث عن الحقوق السياسية للجماعات الإثنية، وتجاهل الجماعات الدينية، ومن ضمنها الجماعات الطائفية والمذهبية. فهل ينبغي أن يكون لتلك الجماعات حقوق سياسية، أيضًا؟ وهل يتسق ذلك مع ديمقراطية النظام السياسي و”علمانيته”؟ قبل تناول هذه المسألة من زاوية “ديمقراطية النظام السياسي”، وتمهيدًا لهذا التناول، من المفيد تناول المسألة من زاوية “علمانية الدولة والنظام السياسي”.
لا يتضمن الإعلان أي ذكر لكلمة “علمانية”. وقد أثار ذلك الغياب أو التغييب اعتراض بعض السوريين “العلمانويين”، وتحفظاتهم، ودفعهم إلى المطالبة بوجود نصّ صريح وواضح، يقول بعلمانية الدولة والنظام السياسي المنشودين. لكن ثمة من يقول بعدم ضرورة وجود هذا المفهوم الإشكالي، ذي السمعة السيئة لدى شريحة واسعة من الناس، طالما أن النص يشدد صراحةً على “تساوي المواطنين في الكرامة الإنسانيّة، وأمام القانون في الحقوق والواجبات، من دون أيّ تمييز بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الإثنية أو الدّين أو العقيدة“. فهذه هي السمة الأساسية للعلمانية، بوصفها شرطًا من شروط النظام الديمقراطي. أما تحويل العلمانية إلى شعار، وأيديولوجيا شاملة، فيمكن أن يكون عقبةً أمام ديمقراطية النظام السياسي، بدلًا من أن يكون شرطًا من شروط هذه الديمقراطية.
وانطلاقًا من هذين الفهمين المختلفين للعلمانية؛ يمكن للحديث عن حقوق سياسية للجماعات الدينية أن يكون متناقضًا مع العلمانية، بوصفها شعارًا، وأيديولوجيةً شاملةً تقول بالفصل الكامل بين الدين، من جهة، والسياسة والدولة، من جهة أخرى، لكن الإقرار بالحقوق المذكورة لتلك الجماعات لا يتناقض مع العلمانية، بوصفها سمةً من سمات النظام الديمقراطي، ومع كونها تقول بالمساواة بين المواطنين في الكرامة والحقوق والواجبات؛ بل إن هذا الإقرار المبدئي (قد يكون) من مقتضيات ديمقراطية هذا النظام أو من نتائج تلك الديمقراطية. لا شك في أن هناك كثيرًا من الشكوك في خصوص مدى تقبل قوى “الدين السياسي” للديمقراطية، ولهذا وجب التشديد على أن قبول النظام السياسي الديمقراطي لأي طرف يشترط، بالضرورة، قبول هذا الطرف، صراحةً، ونظريًّا وعمليًا، لأسس هذا النظام الديمقراطي ومقوماته الأساسية. يُضاف إلى ذلك أن إعطاء الحقوق السياسية للجماعات يجب أن يتأسس على الحقوق الفردية، وليس العكس. وبكلمات أخرى: إن الحقوق المذكورة تتأسس على حقوق الأفراد، أما حقوق الأفراد فلا تتأسس على أي حقّ جماعاتيّ، بل تؤسس له. وهذا يعني أن الأفراد يملكون دائمًا إمكانية الدخول في تنظيمات جماعاتية، كهذه، والخروج منها. فالنسب لا يفضي تلقائيًّا إلى الانتساب، ولا يمكن قبول أي قسر أو فرض جماعاتيّ، في أي نظام ديمقراطيّ. كما ينبغي التشديد، دائمًا، على أن تلك التنظيمات تمثل جانبًا، فقط، من رؤية الجماعة المفترضة التي تنتمي إليها، ولا يحق لها ادعاء التمثيل الكامل لها. فهذا الأمر تقرره سيرورة العملية الديمقراطية التي تفسح دائمًا مجالًا لاختلاف الآراء وتغيرها وتغييرها، بعيدًا عن أي محاصصات جامدة أو حتى ثابتة.
4 – في الوطنية (والقومية)
وفقًا للبيان، لا يبدو سهلًا الاتسام بالوطنية، فهذه الوطنية تتطلب التحلي بكثير من السمات، وتبني كثير من الأفكار والقيم والمبادئ والأهداف؛ وبعضها، على الأقل، إشكاليّ وموضع خلاف (شديد). ومن هنا تنبثق ضرورة عدم المبالغة في إلحاق كثير من المسائل الإشكالية بالمسألة الوطنية. فعلى سبيل المثال، ليس ضروريًّا أن يتبنى الإنسان رؤيةً اقتصاديةً محددةً لكي يكون وطنيًّا. وكذلك الحال في مسائل كثيرة أخرى يتضمنها البيان. والربط بين الوطنية والمواطنة أمرٌ مهمّ معياريًّا، لكنه يترافق مع تحميل الوطنية ما لا طاقة لها به أو عليه. ومن شأن كثافة السمات الوصفية والحمولة المعيارية أن تقوم بإقصاء كثير من الوطنيات المخالفة لهذا التصور للوطنية. وفي حال تقديم الوطنية بهذه الكثافة الوصفية والحمولة المعيارية، ينبغي أن يترافق ذلك، بالضرورة، مع الإقرار بأن الوطنية وطنيات، من حيث المبدأ والواقع، وبدون تفاوت معياري ضروريّ. وهذا الإقرار الأخير يستلزم البحث عن القواسم المشتركة بين تلك الوطنيات، للوصول إلى تعريف الحد الأدنى للوطنية. ويمكن للتعريف التقليدي للوطنية أن يقدّم ذلك الحد الأدنى والمتمثل في الارتباط العاطفيّ ببلد/ وطن ما، والشعور بالانتماء الهوياتي الجزئي إليه، والاهتمام بخيره، مع استعداد، مبدئيّ، للقيام بتضحية ما من أجل هذا الخير.
ومن المهمّ جدًّا، عمومًا، وفي الحالة السورية خصوصًا، تخفيف السمات الوصفية، والحد من الحمولة المعيارية، الملحقة بمفهوم الوطنية. فمن ناحية أولى، ينبغي فهم وجود سوريين (كثر) لا يتبنون الوطنية، ولا يرون في سورية وطنًا لهم. ولا ينبغي المسارعة إلى الإدانة (الأيديولوجية) لهؤلاء السوريين. فالوطنية ليست، بالضرورة، أفضل، معياريًّا، من الخيارات الأخرى. وهي ليست مجرد تنظير لواقع قائم؛ إنما هي تنظير لما يجب أن يكون، بناءً على رؤية مصلحية، بالدرجة الأولى. فمن وجهة نظر كثيرين، وكاتب هذه السطور منهم، من مصلحة السوريين أن يحاولوا أن يجعلوا سورية وطنًا لكل السوريين. لا يبدو لي أن هذا هو الخيار الأفضل، فحسب، بل الخيار “الجيد” الوحيد. لكن من المفهوم جدًّا أن تثير فكرة “سورية الوطن” نفور أو سخرية أو لامبالاة سوريين كثر. فسورية التي يعرفونها كانت أبعد ما يكون عن أن تكون وطنًا؛ لقد كانت “سوريا الأسد” أو “سوريا البعث”، وسورية القمع والظلم والإفقار والمعاناة. الوطنية السورية لم تكن، في العقود الأخيرة، على الأقل، واقعًا معطى، ولا بديهيةً وصفيةً أو معياريةً، معرفيةً أو أخلاقيةً أو سياسيةً. الوطنية هي ما يمكن أن نصبو أو نسعى إليه، ونؤسسه، أو نؤسس له، أكثر بكثير من كونها ما ننطلق منه، ونؤسس عليه.
تبدو العلاقة المفهومية، الوصفية والمعيارية، بين “الوطنية” و”القومية”، علاقة تناقض أو اختلاف جذريّ، من وجهة نظر كثيرين، في “العالم الغربي المعاصر”. وظهر ذلك واضحًا في قول الرئيس الفرنسي ماكرون: “الوطنية هي نقيض الوطنية تحديدًا: القومية خيانة للوطنية”. أما الإعلان فلا يرى في الوطنية “نقيضًا أو بديلًا للانتماء القومي”. من المفهوم جدًّا أن تسود البيان محاولة استيعاب الاختلاف، في إطار جامع، بعيدًا عن عمليات الإقصاء قدر المستطاع. لكن استيعاب ما لا يمكن استيعابه، والتوفيق بين أطراف لا يمكن، نظريًّا و/ أو عمليًّا، التوفيق بينها، يكون أقرب إلى التلفيق منه إلى التوفيق، وأقرب إلى الموقف السياسي الرغبوي منه إلى الفهم المعرفي والضبط المفاهيمي والواقعية (السياسية). الوطنية التي يتحدث عنها الإعلان مختلفة عن القومية بالتأكيد، لكن ليس واضحًا كيف يمكنها أن تستوعب القومية التي تناقض الوطنية، وصفيًّا ومعياريًّا. فثمة شكوك كبيرة ومسوغة في إمكانية أن يكون الاتجاه القومي العروبي أو الكردوي، على سبيل المثال، جزءًا من أي وطنية سورية، مفترضة أو منشودة، بقدر كونه قوميًّا فعلًا.
قد لا يكون استخدام مفهوم “القومية”، في هذا الخصوص، مناسبًا، فالقومية ترتبط بمفهوم الأمة، والحديث عن العرب والأكراد، بوصفهما قوميتين، يحيل إلى هويتين جريحتين، لم تستطيعا التجسد في دولة – أمة. ولا يتعلق الأمر بالقوميات الإثنية، فحسب، بل يمكن أن يمتد إلى أي جماعة عضوية أخرى تتسم بسمات القومية: كالجماعات الدينية/ الإسلامية، على سبيل المثال. ومن الضروري التمييز، هنا، بين الإثنية والقومية، فالجماعة القومية تتأسس على إثنية أو انتماء عضويّ ما، لكن الجماعة الإثنية أو العضوية ليست جماعةً قوميةً، بالضرورة. وليس المقصود هنا نفي مشروعية وجود اتجاه قوميّ، لدى أفراد أي إثنية، لكن من الضروري بحث كيف يمكن للتوجهات القومية تحت الوطنية، أو فوق الوطنية، أن تكون وطنيةً أو جزءًا من وطنية ما مغايرة لتوجهها القومي. ويبدو أن اتساق التوجهات القومية مع الوطنية يتناسب طردًا مع تلاشي قومية تلك التوجهات.
التوفيق بين الفردانية والجماعاتية، في إطار وطنيةٍ ما، ليس مسألةً سهلةً بالتأكيد. ولا نرى أن الحل يكمن في إقصاء أحد الطرفين أو في توفيق مائع يعطي الطرفين أهميةً متساويةً. بل نرى ضرورة أن يتأسس هذا التوفيق على أولوية الأفراد وحرياتهم، قدر المستطاع، بدون إنكار الحقوق الجماعاتية، المتأسسة أصلًا، على الحقوق والحريات الفردية، كما أسلفنا. ولا ندعي أننا قدمنا حلًا كاملًا لتلك الإشكالية/ المشكلة، أو قدرتنا على تقديم هذا الحل الكامل. وفي كل الأحوال، لا ينبغي البحث عن هذا الحل، في إطار تفكير نظريّ مجرد، معزول عن الحوار الفكري والسياسي. فمعالجة الإشكالية النظرية المجردة لا تنفصل، أو لا ينبغي أن تنفصل، عن مواجهة المشكلة العملية والعينية في سياقاتها. ولا ينبغي بالتأكيد، ولا يمكن أصلًا، مواجهة هذه المشكلة مواجهةً فرديةً، بل لا بد أن تحصل تلك المواجهة، في إطار تفاعل بنَّاء مع “الآخرين”